لتواضع عند الرِفعة:
إذن فعندما نبتلى بمنصب أو جاه بين الناس علينا أن نكثر من أعمال التواضع، لأن النفس في هذه الحالة تريد أن تشمخ وتخلع جلباب العبودية، وتلبس لباس التيه والفخر، وبالمبالغة في التواضع تعود إلى أصلها.
انظر إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد استمر في حلب الأغنام لجيرانه بعد توليه الخلافة، ويقول لهم بعد أن ظنوا أنه لن يستمر في ذلك: بل لعمري لأحلبها لكم، وإني لأجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه خلق كنت عليه، فاستمر يحلب لهم[1].
ولما بعث عمر أبا هريرة أميرًا للبحرين دخلها وهو راكب على حمار، وجعل يقول: طرقوا للأمير، طرقوا للأمير[2].
ورئي عثمان بن عفان على بغلة، وخلفه عليها غلامه نائل وهو خليفة، ورئي كذلك نائمًا في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين[3].
قال أيوب السختياني: ينبغي للعالم أن يضع الرماد على رأسه تواضعًا لله عز وجل[4].
ويحكي ابن الحاج في المدخل عن الشيخ الزيات – الذي كان من أكابر العلماء الصلحاء في وقته ببلاد المغرب – أنه كان إذا جلس إلى الدرس يجتمع له نحو من أربعمائة أو ستمائة من الفقهاء يحضرون إليه، فإذا فرغ من مجلسه قام ودخل بيته، وأخرج ما يحتاج إليه على رأٍسه أو في يده من قمح أو عجين يخبزه، أو شراء خضرة أو حاجة من السوق، أو حصاد لزرعه بيده، أوغسل ثياب إلى غير ذلك من الحوائج[5].
التواضع عند ورود النعم:
ومن المواضع التي يتأكد عندها التواضع لله عز وجل: ورود النعم.
قال كعب: ما أنعم الله على عبد من نعمة من الدنيا فشكرها لله، وتواضع بها لله، إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا، ورفع له بها درجة في الآخرة، وما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها لله، ولم يتواضع بها لله، إلا منعه الله نفعها في الدنيا، وفتح له طبقًا من النار يعذبه إن شاء، أو يتجاوز عنه[6].
ومن صور التواضع لله: كثرة السجود:
من أجَل صور التواضع لله: السجود، فمن خلاله يكون العبد في وضع يظهره بمظهر الذليل، المنكسر، المستكين، وهذا ما يريده الله عز وجل منه، من هنا يتبين لنا قوله صلى الله عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء"[7].
فلنكثر من السجود، ولنظهر فيه انكسارنا واستكانتنا وخضوعنا لمولانا.
قال طاووس: دخل علي بن الحسين الحجر ليلة فصلى، فسمعته يقول في سجوده: عُبَيدك بفنائك، ومسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك[8].
إظهار المسكنة في الدعاء:
إظهار المسكنة في الدعاء صورة من صور تواضع العبد لربه.. أخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين.
وفى حديثه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دعائه عشية عرفه: " أنا البائس الفقير، المستغيث، المستجير، الوجل، المشفق، المقر، المعترف بذنبه، أسالك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك